ما وراء النص.. عاطف محمد عبدالمجيد
ما وراء النص..
الأدب على أريكة المحلل النفسي
كان الدكتور على الراعي يحذر منذ عقود من “مجاعة نقدية” وحوله من الكبار لويس عوض وعبدالقادر القط ومحمود أمين العالم وعز الدين إسماعيل ورجاء النقاش وغيرهم.. تُرى ماذا بوسعنا أن نقول اليوم وقد كفّت الجامعات خصوصًا عن إيفاد بعثاتها إلى أقطار الأرض العامرة بالعلم ومناهجه، والخبرة الحضارية الفائقة بكل تجلياتها، لتقتصر في معظمها على تخريج نماذج أحادية الثقافة زائفة الوعي، كما سدّت وسائل الإعلام المرئية والمطبوعة منافذها على شباب النقّاد الموهوبين لتغمر مساحاتها بالثرثرة السياسية والارتجال الكتابي وتحرّم قراءها من الإبداع الجديد والنقد العميق معًا ؟!
هذا ما يقوله د. صلاح فضل في افتتاحيته لكتاب ” ما وراء النص..اتجاهات النقد الأدبي الغربي في يومنا هذا ” للدكتور ماهر شفيق فريد، الذي صدر عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة. فريد يرى أن المشهد النقدي اليوم هو عبارة عن غابة متشابكة الأغصان، أو صحراء مترامية الأطراف، أو محيط مصطخب الأمواج، أو متاهة يضل فيها القطا، أو هو حسب وجهة نظر القاريء روض نضير، متنوع الأزهار، زكي العطور، زاهي الألوان.غير أنه ورغم اختلاف النظرتين هاتين، يحسب فريد أنه لا خلاف على أمر واحد وهو إن هذا النقد مختلف جذريًّا، في محتواه وشكله ومذاقه عن أي نقد سابق.
الناقد بستانيّ
فريد يسرد بداية آراء بعض النقاد في النقد ورؤيتهم لكُنهه، فيذكر أن المفكر الإنجليزي السير ليزي ستيـﭭن قال في أواخر القرن التاسع عشر إن النقد في نهاية المطاف ما هو سوى تعبير عن شعور فردي.أما في مطلع القرن العشرين راح الناقد الفرنسي أناتول فرانس يدافع عن النقد قائلاً إن النقد سياحة تقوم بها الروح بين الأعمال الأدبية، وكأنما الناقد بستانيّ يطوف بحدائق الأدب مجتنيًا من كل بستان زهرة.وفي العام 1924 كتب الأديب والناقد الإنجليزي ﭼون ميدلتون أنه يؤمن بأن النقد مسألة شخصية، وأنه كلما أقللنا، نحن النقاد، من محاولة إخفاء هذا عن أنفسنا، كان هذا أفضل.فريد يذكر كذلك في مقدمته أنه عندما شرع في وضع هذا الكتاب كانت نيته أن يبدأ بفترة ستينيات القرن الماضي، وهي الفترة التي شهدت في كل من بريطانيا والولايات المتحدة، انحسار موجة ” النقد الجديد ” على كلا شاطئيْ الأطلنطي، وصعود البنيوية وما أعقبها.لكنه حين أوغل في العمل أدرك استحالة تكوين أي صورة واضحة للمشهد اليوم دون الرجوع إلى الوراء حتى عقود القرن العشرين الأولى، وهي التي شهدت مولك الشكلانية الروسية ودائرة براغ والنقد الجديد وبدايات الحركة النسوية والمؤثرات الفرودية والماركسية.من هنا قرر فريد أن يبدأ من العام 1915 عام تأسيس دائرة موسكو اللغوية ومنها نبعت بشكل جزئي الشكلانية الروسية، وينتهي في العام 2014 عام صدور كتاب الناقد الأيرلندي دينس دونوه عن الاستعارة، وبهذا يغطي هذا الكتاب ما يقرب من قرن.يتساءل فريد لماذا كان النقد الأدبي اليوم على هذا القدر من الصعوبة؟ ويرى أن ذلك لعدة أسباب يجملها في خمسة وهي أن هذا النقد يتطلب من قارئه معرفة بفنون أخرى، وأنه مغروس في الفلسفة بشتى أنواعها، وأن هناك نقادًا يستعصون على التصنيف ويصعب إدراجهم في أي خانة، وأن النقد والإبداع قد أصبحا في يومنا هذا متداخلين وأحيانًا متماهيين حتى لا يمكننا معرفة بعض نصوص النقد هل هي نقد أم إبداع ؟، وأن هناك مصطلحات غير مألوفة في السياق النقدي جرت على أقلام النقاد، نحتوها أو أضفوا عليها معاني جديدة.
أخطاء نقاد ومترجمين
أيضًا يؤكد فريد أنه ليس في حاجة إلى أن يقول إن كثيرًا من النظريات النقدية التي يتناولها هذا الكتاب، سواء أكانت تقليدية أو راديكالية، قد دخلت حقلنا النقدي في العالم العربي من مشرقه إلى مغربه، وأثارت جدلاً ربما لم تخفت أصداؤه حتى اليوم.فريد يذكر أيضًا أنه أثناء عكوفه على وضع هذا الكتاب وإعادة قراءة ما قرأه قديمًا وقعت عيناه على على عدد من الأخطاء التي تورط فيها نقادنا وباحثونا ومترجمونا، واكتفى بذكر مثالين أولهما رواية أولدس هكسلي والتي يترجمها البعض إلى ” عالم جديد شجاع ” والأصح أنها ” عالم جديد جميل أو بديع “، وثانيهما رواية الأمريكي ناثانيل هوثورن التي تُرجمت إلى ” الخطاب القرمزي ” والصواب هو ” الحرف القرمزي “.
فريد الذي يبدأ كتابه بترجمة لبعض المصطلحات الأجنبية، يقسمه إلى ثلاثة أقسام، الأول منها عنونه بـ ” ميراث الأمس القريب “، والثاني بـ ” الصورة اليوم “، والثالث بـ ” وعود المستقبل “، وفي كل منها يتحدث عن عدد من المدارس والنظريات النقدية والأدبية.في القسم الأول يتحدث فريد عن الشكلانية الروسية ونشأتها في العقد الثاني من القرن العشرين، وناصرها فقهاء لغة غير تقليديين ودارسون للأدب مثل ب. توماشفسكي، يو. تينيا نوف ور. ياكوبسن.وقد كان الشكلانيون ينظرون إلى الأدب على أنه حقل متميز من حقول الجهد الإنساني، وأنه فن لفظي أكثر منه انعكاسًا للمجتمع أو ساحة وغي للأفكار.بعد ذلك يعرج فريد إلى الحديث عن كارل ماركس ويراه قد غير مجرى التاريخ وهو الفيلسوف والمؤرخ وعالم الاقتصاد السياسي والاجتماع والناشط الراديكالي الألماني، وهو مؤلف كتاب رأس المال.وفي ختام رحلته مع النقد الماركسي يثبت فريد أنه من المؤمنين بمدرسة النقد الجديد الأنجلو – أمريكية، وهي مدرسة تؤكد على استقلال، وليس انفصال، الفن عن كل الاعتبارات القومية والدينية والأخلاقية والاجتماعية، ومن ثم تقف على الطرف المقابل للنقد الماركسي.وفي حديثه عن مدرسة النقد النفسي يقول إنها تحاول أن تربط بين علم النفس والأدب إذ ترى أن الأدب تعبير عن نفسية صاحبه، وأن فهم العمل الأدبي لا يتم إلا إذا فهمنا حياة مُنْشئه، أو هي تعتبر العمل الأدبي، كما يقول رشاد رشدي، تعبيرًا مباشرًا عن شخصية الكاتب.كذلك يتحدث عن فرويد وكتابه المؤثر ” تفسير الأحلام ” والذي من خلاله اكتشف فرويد المنهج العلمي الذي يمكن به دراسة اللاشعور الذي اكتشفه من قبله الشعراء والفلاسفة، وهذا ما يؤكد عمق الصلة بين علم النفس والأدب والفن التشكيلي، وكلها محاولات لسبر أغوار الروح الإنساني.
النقد الجديد
ومتحدثًا عن مدرسة النقد الجديد التي قامت على أكتاف إليوت ورتشاردز ومن تلوهما، يقول فريد إنها تقوم على القراءة الوثيقة للنص، والاهتمام بالفروق الدقيقة بين دلالات الكلمات وظلال معانيها، كما توجه النظر إلى أدبية النص، ما يجعله أدبًا وليس شيئًا آخر.وتعتبر هذه المدرسة من أهم الحركات الفكرية في القرن العشرين، على حد قوله.كذلك يتحدث فريد في هذا القسم عن الأدب المقارن وعن تاريخ الأفكار وعن ما بعد الحداثة، إلى جانب النقد الأونطولوجي والبنيوية والتفكيكية.
في القسم الثاني من الكتاب يتساءل فريد مع الناقد البريطاني المعاصر تيري إيجلتون عما يجعل عملاً أدبيًّا جيدًا أو رديئًا، وإلى أي حد يكون القاريء حرًّا في تفسيره.كما يكتب عن النقد المعرفي وهو محاولة لإجراء حوار بين الدراسات الأدبية وعلوم الذهن والمخ الجديدة، حوار تنخرط فيه أقسام علم النفس واللغويات وعلم الأعصاب وفلسفة الذهن في الجامعات الغربية، ويرتوي من لغويات نعوم تشومسكي وأبحاث الذكاء الاصطناعي، على حد تعريف آلان رتشاردسن له.أما في مقاله الصحافة الأدبية: كاتبو مراجعات الكتب، فيحاول فريد أن يفرق بين نوعين من الكُتّاب وهما الناقد وكاتب مراجعات الكتب في الصحف والمجلات، وقد يجمع الكاتب الواحد بينهما.فريد يرى أن النقد بطبيعة الحال أعمق وأكثر تفصيلا من المراجعة الصحفية، وليس هناك ما يمنع أن تكون هذه الأخيرة مساوية للنقد في القيمة إذا توافر المراجع القدير.وهنا يذكر فريد أفكوهة على لسان الأديب الإنجليزي سيدني سميث حيث يقول هذا الأخير ساخرًا: ” لا يجمل بك قط أن تقرأ كتابًا قبل أن تكتب مراجعة له.فقراءته لن يكون لها من أثر سوى إصابتك بالتحيز “.
مزيد من الديناميت
فريد يذكر كذلك أن الناقد والشاعر الإنجليزي المعاصر كريج رين كان قد أصدر في العام 2013 كتابه ” مزيد من الديناميت ” يتحدث فيه عن الأدب والفن التشكيلي، ويرى فريد أن عنوان الكتاب هذا يوحي بأن مؤلفه ينظر إلى النقد الأدبي والفني على أنه نوع عنيف من الانفجارات، ديناميت ينسف الآراء المتعارف عليها والمعتقدات السابقة.أما القسم الثالث والذي يضم مقالاً واحدًا فقط عنوانه ما الذي تقوله خريطة الطوالع؟ يقول فريد إن هذه الخريطة توميء إلى أن شكل النقد الأدبي سيغدو في الألفية الثالثة بالغ الاختلاف عن شكله في الماضي، بل عن شكله في هذه اللحظة. فريد يتوقع اندماجًا ما بين النقد الأدبي والعلم، سيغدو النقد تجارب تُجرى في معمل العقل أو في معمل الفيزياء، وستكون أطره المرجعية هي السيبرنطيقا، فيزياء الكم، الهندسة الوراثية، علم الأحياء الجزئي والاستنساخ، وذلك مواكبة للثورة الرقمية وثورة الاتصالات والتفجير المعلوماتي وظهور أجيال جديدة من الحاسوب واتساع نطاق الشبكة العنكبوتية الدولية.
وبعد..هذا كتاب أكثر من مهم في مجاله، ينبغي على كل كاتب أو ناقد أن يقرأه وأن يقف أمام مقالاته التي يضمها، وقوف المتأمل الواعي، حتى ينهل من معينها ما يفيده ويساعده في رحلته على متن سفينة الكتابة والإبداع.