دراسات ومقالات

عوض الغبارى يَكتُب : العز بن عبدالسلام “سلطان العلماء”

قيض الله رجالا يدافعون عن الحق، ولا يخشون فى الله لومة لائم، منهم سلطان  العلماء  العز بن عبدالسلام  (577-660هـ) وقد ألف الدكتور محمد الزحيلى كتابا عنه نُشر بالعدد التاسع والثلاثين من سلسلة أعلام المسلمين بدمشق ، وهو الكتاب الذى اعتمدت عليه هنا .

وقد أشاد العلماء بعلم العز بن عبد السلام واجتهاده وورعه وموسوعية معارفه.

وفضل العلماء كبير، فالعلماء ورثة الأنبياء، كما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، خاصة العلماء العاملين كالعز بن عبد السلام.

والعلماء من هذا الضرب يسيرون على جادة الطريق المستقيم، هادين للناس بأقوالهم وأفعالهم ومواقفهم ابتغاء وجه الله، وصلاح الدين والدنيا.

ويتبين الدور العظيم لعلماء الإسلام المخلصين فى المراحل التاريخية الحاسمة التى تحتاج إلى مثل هذه الجهود الرشيدة، والقدوة الحسنة، والجرأة فى الحق، والشجاعة فى الدفاع عن الوطن، خاصة فى عصر العز بن عبدالسلام الذى شهد جانبا من الحروب الصليبية، وبطولات أعلامها، وعلى رأسهم بطل حطين؛ صلاح الدين الأيوبى، ثم الظاهر بيبرس “بطل عين جالوت”. وانتصاره على التتار فى العصر المملوكى.

وكان للعلماء والأدباء دور بارز فى نصرة العروبة والإسلام ، وحث الجيوش على مواجهة الخطر الداهم الذى أصاب البلاد والعباد، خاصة فى مصر والشام أثناء الحروب الصليبية الطويلة ومواجهة التتار، وما صاحب ذلك من جمود فكرى، وفساد وخمول فى كثير من أمور الحياة. وقد نشأ العز بن عبد السلام فى الشام، وعاش بمصر. كان العز بن عبد السلام خطيبا للمسجد الأموى بدمشق، وعُيِّن قاضيا للقضاة عندما انتقل إلى مصر، وقد مات ودُفن بها.

عوض الغبارى يَكتُب : العز بن عبدالسلام "سلطان العلماء"
عوض الغبارى يَكتُب : العز بن عبدالسلام “سلطان العلماء”

ولُقِّب العز بن عبد السلام بسلطان العلماء، كما قال محمود رزق سليم فى موسوعته عن العصر المملوكى “لعلمه الغزير، واطلاعه الواسع، وإيمانه القوى، وحجته البالغة، وزهده، وحبه للحق”.

وقد اختار العز بين عبد السلام سبيل العلم النافع الهادى إلى العمل الصالح نبراسا لسيرة حياته المباركة. كان جادا فى تلقى العلم على أعلامه، مخلصا فى تعليمه لطلابه، وقد “جمع بين العلم والإخلاص، والسلوك والعمل”، كما جمع فى تحصيله بين العلوم الشرعية والعلوم العربية”. كذلك رحل العز بن عبد السلام إلى “بغداد” طلبا للعلم.

 وقد استمسك العز بن عبد السلام بالحق فى الفتوى، فكان من أشهر علماء الفتوى فى عصره جرأة وشجاعة وسدادا بالشام ومصر، خاصة فى المواقف الكبرى التى واجهها وقضى بها بما تصلح به أحوال العباد والبلاد. وكان للعز دور آخر فى التدريس حيث تتعدد مهام العالم فى أداء رسالته وفاء لحق العلم عليه. وقصده طلاب العلم بمصر والشام للإفادة من علمه الغزير، ونجاحه فى التدريس على أسس تربوية سديدة نافعة نظرا لشخصيته العلمية والأخلاقية المتميزة، واتساع معارفه وثقافته وما توافر له من مؤهلات ساعدت على أداء رسالة التدريس بكفاءة. وقد تولى التدريس بالمدرسة الصالحية التى بناها الصالح نجم الدين أيوب بالقاهرة.

وتفرد العز بن عبد السلام بدروسه فى التفسير، وقد اجتهد فى ذلك. وتولى الخطابة بالجامع الأموى فى دمشق عن جدارة واستحقاق لفصاحته وأثره البالغ فى النفس، وإصلاحه الاجتماعى، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وتعلق القول بالعمل.

وعندما انتقل “العز” إلى مصر كان خطيب مسجد عمرو بن العاص؛ أعرق مساجد مصر. وكان القضاء من وظائف “العز” بمصر وقد قام به خير قيام لمصر لتحقيق العدل واستقرار المجتمع، وثبات أركان الدولة. وكانت فتواه “تحظى بالقوة المعنوية والأدبية، وتأخذ طريقها للتنفيذ والتطبيق”.

وأُسند إليه الإشراف على إعمار المساجد بمصر، كما كان قاضيا للقضاة، بمثابة وزير العدل فى عصرنا. وقد مدحه الشاعر المصرى أبو الحسين الجزار، وشبهه بالخليفة “عمر بن عبد العزيز” فى عدله قائلا:

سار عبد العزيز فى الحكم سيرا            لم يَسِرْه سوى ابن عبد العزيز

عَمَّنا حكمه بعدل وسيط                    شامل للورى ولفظ وجيز

يقول العز عن هدف القضاء إنه “إنصاف المظلومين من الظالمين” فلذلك كان سلوك أقرب الطرق فى القضاء واجبا على الفور لما فيه من إيصال الحقوق إلى المستحقين، ودرء المفسدة عن الظالمين والمبطلين”.

وللعز صفاته الخلقية الجميلة، والأخلاقية الجليلة وأبرزها الورع والزهد.

وأقوال ” العز” مصداق لأعماله إذ يقول: “فمن آثر الله على نفسه آثره الله، ومن طلب رضا الله بما يسخط الناس رضى الله عنه، وأرضى عنه الناس”. 

 لم يكن ” العز بن عبد السلام ” يريد شيئا من متاع الدنيا، بل كان يهتم بمصالح الناس، فأحبه الله وأحبه الناس ، وحاول – بفضل ذلك-  إصلاح أحوال البلاد والعباد فى وقت عز فيه ذلك . وشخصية “العز” نادرة فهو قوى مهيب فى الحق، جرئ فى مواجهة الفساد، لكنه متواضع رقيق القلب لنزعته الصوفية وتجرده ونزاهته وترفعه عن شهوات النفس وملذات الدنيا.

وقد واجه “العز” البدع والمنكرات، وأفتى ببطلانها، ولم يخش شيئا فى سبيل محو تلك الآفات. وكان ناصحا أمينا، موجِّها لما فيه الخير والفلاح، عاش حياته آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، مجاهدا فى سبيل الله. وسلاح العالم علمه ولسانه، كما قال العز: “الجهاد ضربان، ضرب بالجدل والبيان، وضرب بالسيف والسنان”.

 وقد أدى العز دوره فى الجهاد فى سبيل الله بوجوده بين جيش المسلمين ضد الصليبيين، فى المنصورة، وحثه الجنود على الدفاع عن الأوطان، وارتفعت مكانته على المستوى الشعبى وعلى المستوى الرسمى..

وكتاب “مجاز القرآن” من المؤلفات المشهورة للعز، وقد كشف عن تعمقه فى علوم العربية، وتذوقه الرفيع للشعر العربى.

والعز بن عبد السلام لا يتهيب ضررا ما دام على الحق مستمسكا بحديث الرسول – صلى الله عليه وسلم- لابن عباس: “احفظ لله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشئ لا ينفعوك إلا بشئ قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشئ لم يضروك إلا بشئ قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام، وجفَّت الصحف”.

وقد ترك “العز بن عبد السلام” علما نافعا من خلال كتبه، وتلاميذه مشمولا بحديث الرسول – صلى الله عليه وسلم- : “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث” صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له.

وفسَّر “العز” القرآن الكريم، وألف فى علومه، وأهمها: “الإشارة إلى الإيجاز فى بعض أنواع المجاز”، ويُسَمى “مجاز القرآن” أيضا.

وللعز مؤلفات فى الحديث الشريف، والسيرة النبوية.  وللعز كتب ورسائل متنوعة فى علوم الدين المختلفة، خاصة فى الفقه والفتاوى.

وكذلك له مؤلفات فى الزهد والتصوف والتربية والأخلاق وفضائل الأعمال. وفى تلك المؤلفات الكثيرة اهتمام بنظرية اهتم بها “العز” وهى: “جلب المصالح، ودرء المفاسد”. وتتلمذ على يد العز وكتبه الكثيرون فى كل زمان ومكان، خاصة أنه بلغ مرتبة الاجتهاد.

ويعد “العز بن عبد السلام” رمزا وشعارا لمدرسة إسلامية امتدت من خلال تلاميذه الأعلام الذين تأثروا بعلمه وفضله. وعنوان تلك المدرسة السلوك القويم، وحب العلم، والجرأة فى الحق.

ومواقف “العز بن عبد السلام” فى الحق صنعت منه بطلا ومثلا أعلى بموافقه الخالدة.

وطول الأجل وحسن العمل تلخيص لحياة العز مصداقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد سُئل : أى الناس خير، فقال: “من طال عمره وحسن عمله”. والعز كما وصفه أحد العلماء: “بحر العلوم والمعارف، … ذو التحقيق والإتقان، والعرفان والإيقان ” .

وهو كما قال عالم آخر: “سلطان العلماء، إمام عصره بلا مدافعة، القائم بالأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر فى زمانه، المطلع على حقائق الشريعة وغوامضها، العارف بمقاصدها”.

ويصدق على “العز” ما أشاد به العلماء من علمه وفضله، وتأليفه الكثير من الكتب والرسائل التى توضح موقفه من علوم الدين، وتحريه للدقة فى ذلك، واجتهاده فى الربط بين هذه العلوم وبين مصالح الناس، وصلاح المجتمع، وسعة معارفه فى مؤلفاته. وأهمها فى علوم القرآن – كما أشرنا – “الإشارة إلى الإيجاز فى بعض أنواع المجاز” وتتجلى فيه براعته فى الوقوف على أسرار البلاغة فى أسلوب القرآن الكريم. والعز بن عبد السلام أول من ألقى دروسا فى تفسير القرآن الكريم بمصر.

وقد فسَّر “العز” “القرآن الكريم”، وبرع فى الفقه، واجتهد فى استنباط أحكامه، كما تميز فى الفتوى، وتولَّى القضاء والإشراف على تطبيق الأحكام الشرعية، معضدا ذلك بمؤلفاته الغزيرة النافعة.

وتتجلى شفافية الروح فى دعاء مؤثر أثبته “العز” فى نهاية أحد كتبه، هو: “اللهم وفقنا لفهم كتابك، والعمل بما فيه، والتخلق بأخلاقه، والوقوف على أسراره ومعانيه، فإنه لا ينفع شئ إلا بقدرتك، ولا يتم أمر إلا بإرادتك، فأذقنا برد عفوك، وحلاوة مغفرتك. اللهم سلوة بك عن كل شئ، وإيثارا لك عن كل شئ.

اللهم تمسكا بكتابك، وتخلقا بآدابك، ووقوفا ببابك، وعكوفا على جنابك. اللهم إقبالا عليك، وإصغاء إليك، وأخذا عنك، وقبولا منك، وغنيمة من كل بر، وسلامة من كل وزر، يا أرحم الراحمين”.

وينفذ “العز” إلى جوهر الدين بقوله: “وكذلك أمر الله عز وجل الناس “بتحصيل مصالح إجابته وطاعته، ودرء مفاسد معصيته و مخالفته، إحسانا إليهم، وإنعاما عليهم، لأنه غنى عن طاعتهم وعبادتهم، فعرفهم ما فيه رشدهم ومصالحهم ليفعلوه، وما فيه غيهم ومفاسدهم ليجتنبوه، وأخبرهم أن الشيطان عدو لهم ليعادوه، ويخالفوه، فرتب مصالح الدارين على طاعته، واجتناب معصيته”.

ويعنى هذا قرب “العز” من المعين العذب لمفهوم الدين، وعمق هذا المفهوم وأصالته، وارتباطه بمصالح العباد فى الدنيا والآخرة. وينبذ “العز” التعصب والجهل والتقليد الأعمى، ولا يقصر اتباع الحق على أحد، “فالحكمة ضالة المؤمن”، لذا نجده يستنكر فعل من يستكين إلى رأى “شيخ” أو “إمام” فيدافع عنه حتى لو تبيَّن الخطأ فيه، فالحق أحق أن يُتَّبَع. ومن حكمه العميقة، وعباراته الذهبية قوله: “ومَن تتبع مقاصد الشرع فى جلب المصالح ودرء المفاسد حصل له من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها، وأنَّ هذه المفسدة لا يجوز قربانها، وإن لم يكن فيها إجماع، ولا نص، ولا قياس خاص، فإن فهم الشرع يوجب ذلك”، فالعقل السليم يميز الصالح من الطالح، والحق بيِّن، والباطل بيِّن، هذا إذا احتدم الخلاف، وثارت الشبهات، وغُمَّت الأمور على الناس.

وحياة “العز بن عبد السلام” عامرة بالحق والخير والقدوة الصالحة. وهو عالم عامل تحمل الأذى وصبر عليه ولم يرجع عما رآه حقا وصدقا.

وقد ترك من العلم ما يخلد ذكره:

والذكر للإنسان عمر ثانى

كما كانت سيرته العطرة مثالا للصدق فى القول والعمل.

 

 

 

 

 

 

 

 

أوبرا مصر ، دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى