دراسات ومقالات

حركة المعنى وإنتاج الدلالة قراءة في قصيدة (كيف تخرجني منك؟)

للشاعرة فدوى حسن

نحاول في هذه الدراسة الوقوف أمام حركة المعنى وأثرها في إنتاج الدلالة، معتقدين أن إنتاج الدلالة يتم من خلال التفاعل الحيِّ والديناميكي بين النص والقارئ، ومن ثم فإن القراءة عملية جدلية تسير في اتجاهين متبادلين من النص إلى القارئ ومن القارئ إلى النص، وليس معنى ذلك أننا ننفي المبدع، بل نرى أنه منشئ العمل الأدبي ومبدعه، ومن تتلاقى بين أصابعه الخيوط السرية التي تتشكل من خلالها لعبة المعنى، ويصبح للنص بمقتضاها حقوله الدلالية، ورغم ذلك فإن عملنا سوف ينصبُّ على النص الشعري، فقد انتهت علاقة الشاعرة بهذا النص منذ أن ألقت القلم وطوت الصحيفة، وسوف نحاول استقراء النص قدر جهدنا، واستكناه عوالمه، وتحديد ملامح الأنا الشاعرة كمرسل، والفكر المهيمن على العمل الإبداعي/ الرسالة، والمتخفي وراء شبكة العلاقات اللغوية التي تمتد هنا وهناك ناسجة خيوط النص طولا وعرضا، ونحن إذ نعتمد تلك الرؤية نضع في الاعتبار أن ما نقوم به مجرد قراءة قد تتفق أو تختلف مع قراءة أخرى، مؤمنين أن التعدد التفسيري للنص الواحد يثريه، ويضيف إليه، ويفضي إلى أن النص لا يتضمن بالضرورة معنى نهائيا، كما يكشف التعدد التفسيري للنص عن آفاقه وأبعاده في سياق الثقافة المتغير؛ إذ لا وجود للنص بمعزل عن المركبات الذاتية للقراء، ذلك أن العلاقة الجدلية بين النص والقارئ تساعد في إنتاج الدلالة

حركة المعنى وتفكيك شفرة العنوان

يعدُّ العنوان عتبة الولوج الأولى إلى عالم النص ودسائسه غير الممكنة، كما أنه “مرسلة مشفَّرة بين الناصِّ والنصِّ من جهة والقارئ والنص من جهة أخرى، وبالتالي فإن رصد العنوان وتفكيكه من شأنه الكشف عن دلالات الخطاب وأسراره” (1) وقد عبَّر عن ذلك إمبرتو إيكو بقوله: “العنوان هو للأسف منذ اللحظة الأولى التي نضعه فيها مفتاحٌ تأويليٌّ” (2) وهذا يدل على أن العنوان ذو دلالة خاصة ومثيرة بالنسبة للعمل الأدبي، ومتلقي هذا العمل في الوقت نفسه؛ فالعنوان يثير في المتلقي هاجس التوغل في كنه العمل الأدبي ومحاولة اكتشاف أسراره ودسائسه، والسباحة بين عوالمه الداخلية التي لا تنكشف للوهلة الأولى، ومن هنا يكتسب العنوان أهميته المائزة من حيث كونه نصا قصيرا أما العمل الأدبي فهو النص الطويل، وانطلاقا من هذا المنظور سوف نتوقف أمام العنوان كأحد العلامات الدالة على فهم النص.

يتضمن عنوان النص (كيف تخرجني منك؟) عناصر ثلاثة، هي: الأنا والآخر والموضوع، ومن الملاحظ أن الضمائر الدالة على حضور الآخر في العنوان أكثر من الدالة على حضور الأنا؛ فقد حضرت الأنا مرة واحدة (الياء/تُخْرِجني) أما الآخر فقد حضر لغويا مرتين (أنت/ تُخْرِجني الكاف/منكَ) ومن الملاحظ أن كلا الحضورين وردا في صورة خطاب بين طرفين، وردت الأنا في صورة المتكلم بينما ورد الآخر في صورة المخاطب، فالموقف الكلامي هو موقف حوار بين طرفين، وهو ما يختزل دلالة النص كاملا؛ إذ إن النص يعبِّر عن علاقة جدلية بين طرفين، هما الأنا والآخر، ولكن هذه العلاقة تحمل التحدي من الأنا تجاه الآخر حول موضوع محدد، وهو العنصر الثالث من عناصر العنوان وهو الموضوع، ومؤداه أن الأنا تمكنت من السيطرة التامة على الآخر بحيث يعجز عجزا تاما عن الفكاك من هذه السيطرة، وهو ما عبَّر عنه العنوان في صورة الاستفهام، وقد بدت ملامح السيطرة التامة من الأنا على الآخر من خلال استخدام لفظ (منكَ) إذ يدل على احتلال الأنا كيان الآخر احتلالا كاملا، فلم تقل الشاعرة: تخرجني من قلبك أو عقلك أو مشاعرك … إلخ، ولكنها عبَّرت عن التمكن التام باستخدام لفظ (منكَ) وهو استخدام تبرره طبيعة التحدي الذي تريده الأنا، وقد يرى البعض أن الاستفهام الوارد في العنوان (كيف تخرجني منكَ؟) دال على التعجب، وهو ما تأباه حركة المعنى في النص؛ إذ إن الشاعرة في نهاية النص تقول: (أرني كيف تخرجني منك؟) وهي دلالة صريحة في التحدي، ومن ثم فإن القول بأن الاستفهام غرضه التعجب ينحرف بالدلالة إلى غير المراد؛ إذ يكون معناها في هذه الحالة: لماذا تخرجني منكَ؟! وهو غير مراد في النص، وبخاصة أن الشاعرة صرَّحتْ في النهاية بتحديها للآخر بعد رسالة تقريرية واضحة بأنها تحتل كيانه كله في قولها (صدرك مخلوق بحجم رأسي … أحاديثي السرية ملفوفة بصمتك … آثار أنفاسي على جلدك … دمك مزدحم بريقي) وإذا دققنا النظر في الجمل فإننا سنكتشف أنها تحاصر الآخر من كل جانب، فلا يستطيع الخلاص، وهذا يتنافى مع دلالة التعجب الخالص.

ومن الملاحظ أن الشاعرة تريد التركيز من خلال دلالة العنوان على الكيفية التي سوف يتبعها الآخر للتخلص من هذا الحب الذي ملك كيانه كله بحيث لا يستطيع الفكاك منه، وهو ما يعبِّر بطريق غير مباشرة عن اعتراف الشاعرة بصدق الآخر في تجربته، فهل كان النص خالصا للحديث عن تمكن التجربة من الآخر، وكيفية سيطرة الأنا عليه، وتغلغلها في كيانه؟ إن أفق التوقع يقتضي من خلال العنوان استدعاء عناصر محددة يمكن أن يدور حولها النص، فهل كان النص متوافقا مع أفق توقع المتلقي؟

حركة المعنى في النص

إن رصد تموجات المعنى صعودا وهبوطا في النص يدفعنا إلى تقسيمه أربعة مقاطع تمثل حركة المعنى، وتنقلاته بين الأطراف المهيمنة، والتي يحاول النص رسم ملامحها في صعودها وهبوطها وتنقلاتها المراوغة بين تضاريس النص المختلفة.

  • 1 –

حملتُ جسدي

بحثا عن موطن دافئ غير قلبك

قبل أن أصاب بنوبة فزع

لقرارك المفاجئ ,

لا أريد لميزانـى       

أن يخذل عدل المحبيبن

حين أسجد باكية

بينما تصفق وحدك لمشهد

أديتــه بمهارة

وخرجت بقرار يعفيك من عبء

يجرك إلى قصة حب موبؤة بالعتمة ,

يمثل المقطع الأول بؤرة الدلالة في النص؛ إذ إنه يؤسِّس لما سيأتي بعده من معاني في المقاطع التالية؛ فالمقاطع الثلاثة التالية سوف تكون نتيجة لما ورد في هذا المقطع، ويتوزع المقطع الأول حول ثنائية يمكن أن نطلق عليها الشاعرة/المحبوب، تتناوب الفعل وردَّ الفعل بين طرفين قد يبدو للوهلة الأولى مختلفين حدَّ التضاد في أفعالهما، أما الطرف الأول فهو الشاعرة التي اتخذت قرارًا بالرحيل، ومنذ اللفظة الأولى بدأت تبرير هذا الرحيل من خلال اتهام الطرف الثاني، وهو المحبوب بعدم الصدق في محبته، ولكن الشاعرة حين ساقت الدليل على عدم صدقه لم تجد غير ظن يساورها (قبل أن أصاب بنوبة فزع لقرارك المفاجئ) فالمحبوب لم يتخذ قرارا بالرحيل، ولكنها تخشى أن يتخذ هذا القرار، ومن ثم فقد حاولت جاهدةً أن تبرر الرحيل بعد أن لم تجد مبررا سوى ظنها فلجأت لحيلة استدرار العطف من خلال قولها (لا أريد لميزاني أن يخذل عدل المحبين حين أسجد باكية بينما تصفق وحدك لمشهد أديته بمهارة وخرجت بقرار يعفيك من عبء يجرك إلى قصة حب موبوءة بالعتمة) وهذه السطور تنطوي على جانبين، الجانب الأول أنها تريد أن تحافظ على نظرتها الإيجابية لقضية الحب، وفي هذا الجانب استدرار للعطف من المتلقين كي يساندوها في قرارها الذي اتخذته، وهو الرحيل، أما الجانب الثاني فهو اتهام المحبوب بأنه غير صادق في حبه، وأنه يقوم بالتمثيل؛ ليتخلص من هذا الحب الذي أصبح عبئا عليه؛ إذ إن هذه القصة على حد وصف الشاعرة موبوءة بالعتمة، وهو وصف أطلقته الشاعرة، ولم تنسبه إلى المحبوب، ولكنها اتهمته به دون أن تأتي بما يدل على ذلك سواء من تصرفاته أو أقواله لها، ومن ثم يظل كلام الشاعرة في هذا المقطع مجرد اتهام دون دليل، فيصبح بذلك مبررًا متهالكا لا يقوم على أساس قوي لاتخاذ موقف بالرحيل، وتبدو الشاعرة في هذه المقطع إيجابية، وحريصة على الحب من حيث هو شعور راقٍ، وفي المقابل يبدو المحبوب مخادعا يؤدي دوره في الخداع بمهارة شديدة؛ ليتخلص من هذا الحب، وإذا كان المقطع يتوزع بين الطرفين على مستوى الفعل فإنه يتوزع كذلك بينهما على مستوى الحضور اللفظي، فقد جاءت الضمائر الدالة على كل من الطرفين متساوية، ففي الحديث عن الشاعرة (حملتُ جسدي بحثا بمعنى باحثة (أنا) أصاب (أنا) لا أريد (أنا) لميزانـي أسجد (أنا) )، أما في الحديث عن المحبوب (قلبك لقرارك وحدك أديتـــــَــه خرجتَ يعفيك يجرك) وإذا نظرنا إلى مستوى التوزيع اللغوي نجد أن الحضور اللفظي للشاعرة جاء سبع مرات، وكذلك الحضور اللفظي للمحبوب، مما قد يضفي على المقطع عدالة في تزويع الحضور بين الطرفين، بيد أن حضور الشاعرة يختلف من حيث الدلالة عن حضور المحبوب، إذ يمارس النص خداعا آخر إلى جانب الخداع الأول المتمثل في أسباب الرحيل التي لم تكن إلا ظنونا، والظنون أكذب الأحاديث كما ورد، وأما الخداع الثالث فقد تمثل في اختيار الألفاظ الدالة عند كلا الطرفين، ففي جانب الشاعرة كانت الألفاظ (حملت جسدي أصاب بنوبة فزع لا أريد لميزاني أن يخذل عدل المحبين أسجد باكية) وكلها ألفاظ تستدعي التعاطف والمؤازرة، ففي قولها حملت جسدي دلالة على صدقها في الحب، وأنها تهالكت من هذا الحب، وأصبحت جسدا ضعيفا، مما يستدعي التعاطف معها في حالتها، والتصديق على ما تدعي، وأما قولها أصاب بنوبة فزع فإنه يستدعي مؤازرتها في هذه الحالة من الهلع والفزع، ومن منا لا يتعاطف مع المفزوع؟! وقولها لا أريد لميزاني أن يخذل عدل المحبين فإنه يتوزع على دلالتين، الأولى العدالة من خلال استخدام لفظ الميزان وهو معادل للعدالة المطلقة، والدلالة الثانية في قولها عدل المحبين، وهو وإن كان مرتبطا دلاليا بكلمة الميزان المستخدمة في وصفها لنفسها فإنه يُحْدِثُ توحدا بينها وبين المحبين، مما يستدعي التعاطف والمؤازرة كذلك؛ إذ أصبحت هي والمحبون وجهين لعملة واحدة، ثم يأتي قولها أسجد باكية؛ ليكتمل المعنى وتنغلق الدلالة المراد إيصالها للمتلقي، وهي صدق الشاعرة في ادعاءاتها، وضرورة تعاطف المتلقي معها ومؤازرتها، أما بالنسبة للمحبوب فقد كانت الألفاظ دالة على الصورة التي تريدها الشاعرة له (موطن دافئ غير قلبكَ لقرارك المفاجئ تصفق وحدك لمشهد أديته بمهارة قرار يعفيك من عبء … قصة حب موبوءة بالعتمة) وكلها ألفاظ تستدعي النفور من هذا المحبوب ووصفه بالمخادع، ففي قولها موطن دافئ غير قلبك دلالة على عدم صدقه، وفي الوقت نفسه التعاطف مع الشاعرة؛ إذ إنها كانت تبحث عن الدفء ولكنها لم تجده في قلبه، ومن ثم فقد بحثت عنه في مكان آخر، مما يبرر تصرفها، وفي قولها لقرارك المفاجئ دلالة على عدم صدقه، وعدم الارتكان إليه؛ إذ إنه لا يمكن الوثوق به لقراراته المفاجئة التي لا يمكن توقعها، وهي صفة سلبية تستدعي النفور منه والتعاطف مع الشاعرة، أما قولها لمشهد أديته بمهارة فإنه يحمل أقصى درجات التشويه عند المحبين؛ لأنها تصمه ليس بعدم الصدق فقط وإنما بالمراوغة والتمثيل، وهي صفات منفِّرة في أعراف المحبة، وأما قولها (وخرجت بقرار يعفيك من عبء يجرك إلى قصة حب موبوءة بالعتمة) فإنه قمة الدلالة على خداعه، وعدم صدقه، ورغم أنها وصفت قصة الحب بأنها عبء عليه، مما قد يبرر تصرفه المزعوم، فقد وصفت نفسها في المقابل بالصدق حين قالت أصاب بنوبة فزع من قرارك المفاجئ، ومن ثم فإن الشاعرة على المستويين اللفظي والدلالي قد برَّرت رحيلها من خلال تشويه الطرف الآخر بصورة غير مباشرة.

  • 2 –

سأتذكر كل ما لم يكن بيننا :

أماكن الثقوب المؤلمة,

شرفات تلصصت على حلمنا ,

لغة خرساء أبطأت نزيف كلمات الغزل,

خريف علقناه بشتاءنا

وما سقطت أوراقه وما ذبلت

ثم يأتي المقطع الثاني من القصيدة ليكون خالصا للشاعرة، تبرز فيه وفاءها للتجربة من خلال فعل معاكس لما هو معهود، وإن كان يؤكد ما هو متعارف عليه بين المحبين، فهي ستتذكر ما لم يكن بينهما (الثقوب المؤلمة الشرفات التي تلصصت على الحلم الخريف اللغة الخرساء) فلم يكن بينهما ثقوب مؤلمة، وهذ ا يصب في الادعاء الوارد في المقطع الأول الواصف للمحبوب بالخداع؛ فإذا لم تكن بينهما ثقوب مؤلمة لماذا خدعها بمشهد أدَّاه وحده ليهرب من تلك القصة؟! ولم يكن بينهما عواذل يمكن أن يوقعوا الخلاف بينهما، وهذا يؤكد خداعه؛ إذ إن ما قام به كان قرارا متخذا دون تأثير من أحد، وهو ما يدل على نفسية هذا المحبوب المخادعة، ثم يأتي الوصف التالي للتجربة، وهو أن التواصل بينهما كان مستمرا، وكلمات الغزل كانت كنهر جارٍ يستمتع به كلاهما، ولم يكن في تجربتهما خريف، ولا سقطت أوراق الحب، وكل هذه الأوصاف تحاول الشاعرة من خلالها التأكيد على الدلالة الواردة في المقطع المؤسِّس، وهو المقطع الأول الذي حاولت فيه تبرير رحيلها، أما على مستوى الحضور اللفظي فقد كان الحضور للطرفين معا ما عدا ما جاء في قولها (سأتذكر) للدلالة على احترامها للتجربة التي خاضتها، وفي المقابل نزع هذه الصفة عن الطرف الآخر/المحبوب، وما سوى ذلك فقد جاء الحضور اللفظي يجمع الطرفين معا (بيننا حلمنا علقناه بشتائنا) وهذا الحضور له ما يبرره؛ إذ إن التواصل بين الطرفين كان موجودا، وكانا معا في علاقة متواصلة، ومتوافقة.

  • 3 –

سأخرجك منى,

حتى أن احتاج الأمر ممارسة غضبى,

لأحطم جسرا واصلا بين روحي

وأبديتك فيّ,

حتى إن احتاج الأمر جراحة عاجلة

أما المقطع الثالث فقد جاء خالصا للشاعرة من حيث الدلالة، وإن كان للمحبوب حضور لفظي، ولكنه حضور سلبي، فمن حيث الدلالة قررت الشاعرة التخلص من هذه التجربة نهائيا (سأخرجك مني حتى إن احتاج الأمر ممارسة غضبي) وهي قسوة تتنافي مع ما ورد في المقطعين الأولين من محاولة التودد وإظهار الجانب الإيجابي في الشخصية؛ فممارسة الغضب فعل قاس للتخلص من التجربة، وقد يبرر البعض هذا الفعل بما ورد في النص من وصف المحبوب بالمخادع الذي لم يكن صادقا في حبه، ولكن هذا الوصف لم تورد الشاعرة عليه دليلا، وبقي مجرد كلام مرسل، ثم يستمر العنف المعنوي من الشاعرة في قولها (لأحطم جسرا واصلا بين روحي وأبديتك فيَّ حتى إن احتاج الأمر إلى جراحة عاجلة) وفعل التحطيم فعل عدائي يتنافى مع ما أوردته في المقطع السابق من أنها ستتذكر كل ما لم يكن بينهما، فلم تكن بينهما ثقوب سوداء، ولا شرفات تلصصت على حلمهما، ولا بهتت لغة الغزل بينهما يوما، ولا كان بينهما من يعكر صفو علاقتهما، ومن ثم فإن الفعل هنا من الشاعرة غير مبرَّر إطلاقًا، وإن كانت تحاول تبريره بخداع المحبوب لها الذي لم يكن إلا ظنا، ومع العنف الذي قررت الشاعرة استخدامه للتخلص من هذا المحبوب فإنها دلت بطريق غير مباشرة على تمكن هذا الحب من نفسها وسيطرته عليها، ففي قولها سأخرجك مني دلالة على التمكن، ثم يأتي قولها (جسرا واصلا بين روحي وأبديتك فيَّ) ليدل على قوة التمكن الذي يحوزه هذا الحب من نفسها من خلال استخدام لفظي (جسرا أبديتك فيَّ) واستخدمت الشاعرة الفعل المتصل بالسين الدالة على المستقبل، وإذا كان المستقبل غير معلوم فإن ما يحدث فيه غير معلوم ولا مؤكد أيضا، وبالتالي فإن فعليْ الإخراج والتحطيم قد تقدر عليهما الشاعرة وقد لا تقدر، وهذا يتوقف على تمكن هذا الحب من نفسها، أما الحضور اللفظي في هذا المقطع فقد كان حضور الشاعرة لفظيا حضورا فاعلا مؤثرا بينما كان حضور المحبوب باهتا، ومفعولا به.

  • 4 –

وعقابى لك :

لن أساعدك على مغادرتي منك

ذكرياتك فى ملامحي,

صدرك مخلوق بحجم رأسى

أحاديثي السرية ملفوفة بصمتك,

آثار أنفاسى على جلدك,

همسات قصصي في مسمعك

دمك مزدحم بريقى

فأرنى إذن

كيف تخرجنى منك!

ثم يأتي المقطع الرابع والأخير لتتخذ فيه الشاعرة قرارها بعقاب المحبوب بأن يظل يعيش في التجربة، ومع ما يبدو من منطقية هذا الكلام فإنه يدل على أمنية الشاعرة أن يعيش المحبوب في التجربة، وليس كما ادَّعت أنها لن تساعده على التخلص منها؛ لأنها وصفته في المقطع الأول بأنه مخادع، فهل كان مخادعا فعلا كما وصفته الشاعرة في المقطع الأول؟! وإذا كان مخادعا فما جدوى أن تقول في المقطع الرابع (لن أساعدك على مغادرتي منك آثار أنفاسي على جلدك همسات قصصي في مسمعك دمك مزدحم بريقي) فوجود آثار أنفاسها على جلده دليل على صدق مشاعره، وهمسات قصصها التي ما زالت في مسمعه دالة كذلك على صدقه، أما دمه المزدحم بريقها فإنه يدل على الاعتراف الواضح من الشاعرة على أن المحبوب لم يكن ينوي الرحيل، كما زعمت في المقطع الأول، واتخذت هي بناء على هذا الزعم قرارها بالرحيل إلى مكان تشعر فيه بالدفء أكثر من قلبه، والحقيقة أن الشاعرة حاولت أن تبرر رحيلها في المقطع الأول، ولكنها أثبتت في المقطع الأخير بطريق غير مباشرة أن المحبوب لم يكن مخادعا، وهنا يأتي السؤال المشروع والمنطقي كذلك: هل كان الخداع من المحبوب أم من الشاعرة؟ وليس في ذلك السؤال اتهام لأي طرف من الطرفين، ولكنه محاولة لفهم حركة المعنى في النص، وسوف نتعرض للإجابة عليه من خلال الحديث عن ملمح آخر من الملامح التي يمكن رصدها في القصيدة، وهو تجليات الأنا في النص؛ إذ نقوم برصد حركة الأنا الشاعرة من خلال تجلياتها المختلفة، سواء في مرآة نفسها، أو في مرآة المتلقي، أو تجلي الآخر/المحبوب في مرآة الأنا الشاعرة.

تجليات الأنا في النص

للأنا الشعرية حضورها اللافت في القصيدة، فالقصيدة تنسج ملامح تلك الأنا عبر تضاريس النص، وتتبدى الأنا في كل سطر من سطور القصيدة حتى عند حديثها عن المحبوب، إذ يصبح المحبوب كاشفا عن ملامح الأنا في تصورها ورؤيتها لنفسها وللآخر أكثر من كشفه عن ملامح المحبوب نفسه، وكأن النص بأكمله لوحة تتجلى فيها صورة الأنا الشاعرة، وما سواها مجرد رتوش وخطوط تحدد ملامح تلك الأنا، وسوف نحاول رصد ملامح الأنا في مرآة نفسها، وفي مرآة المتلقي متخذين من النص الشعري نبراسًا نهتدي به.

                        الأنا في مرآة نفسها

رسمت الألفاظ والجمل في النص صورة محدَّدة المعالم للأنا الشاعرة، بحيث لا تخطئها العين، واحتلت صورة الأنا الشاعرة النص كاملا فلا يخلو مقطع من مقاطعه دون وضع خط من خطوط تلك الملامح، فإذا وصل النص إلى نهايته اكتملت ملامح الأنا الشاعرة، واستقرت في الذهن الرسالة التي أراد النص إيصالها.

1 الصدق: تتجلى الأنا الشاعرة في مرآة نفسها صادقة، وباحثة عن الحب والأمان، وقد بدا ذلك منذ السطور الأولى من القصيدة؛ إذ تقول (حملت جسدي بحثا عن موطن دافئ غير قلبك …) إنها صادقة مع نفسها في البحث عن الحب الصادق، ولذلك كان قرارها بالرحيل نتيجة طبيعية لأنها لم تجد دفء الحب، فحملت جسدها إلى حيث الدفء، ويبدو صدقها مع نفسها من وجهة نظرها حين تقول (لا أريد لميزاني أن يخذل عدل المحبين) وتبدو الأنا الشاعرة محبة، ومتسقة مع المحبين وقوانين المحبة، ولذلك كان رحيلها؛ لكي تكون أناها متوافقة مع ما تؤمن به من عدل المحبين، ويبدو صدقها في أشد وضوحه حين تقول (سأتذكر كل ما لم يكن بيننا .. أماكن الثقوب المؤلمة .. شرفات تلصصت على حلمنا .. لغة خرساء أبطأت نويف كلمات الغزل .. خريف علقناه بشتائنا، وما سقطت أوراقه وما ذبلت) يتجلى الصدق واضحا حين ذكرت الشاعرة الجوانب الإيجابية للتجربة، فهي لم تشوِّه التجربة، ولم تذكر الجوانب السلبية، ولكنها ذكرت أن تجربة الحب كانت ملئية بالصدق وامتلأت الحوارات بينهما بالغزل الذي جعل الحياة ربيعا مزهرا، ولم يكن بينهما ما يعكر صفو الحياة، ويتجلى الصدق الذي حاولت الشاعرة أن تصبغه على أناها في نهاية المقطع حين ذكرت أنها لن تساعدالمحبوب على التخلص من حبها، وقد يفسر البعض ذلك بأنها ما زالت وفية لحبها، وتتمنى أن يصدق المحبوب في حبه، وأن يظل محتفظا بهذا الحب، ولذلك فهي لن تساعده على التخلص من هذا الحب، فتقول: (لن أساعدك على مغادرتي منك .. صدرك مخلوق بحجم رأسي .. آثار أنفاسي على جلدك .. همسات قصصي في مسمعك .. دمك مزدحم بريقي) إن صورة الأنا الشاعرة في مرآة نفسها صورة ناصعة تحاول الشاعرة أن تصدِّرها للمتلقي، وتحتل مسامع المحبين، وتستميل عقولهم، وتستحوذ على قلوبهم.

2 الإخلاص: وهو من الملامح المهمة التي تحاول الشاعرة رسمها للأنا في ذهن المتلقي مدركة أن هذه الصفة جوهرية في العلاقات الإنسانية عامة، والعلاقة بين المحبين خاصة، ولذلك حاولت جاهدة أن تكون ضمن الملامح التي تتجلى بوضوح في صورتها، كما حاولت في الوقت نفسه نزعها عن المحبوب؛ لتبرر رحيلها؛ لأن نزع هذه الصفة عن المحبوب يثبتها لها؛ إذ إن رحيلها كان نتيجة صدقها في المحبة وإخلاصها لهذا الحب، ولما لم تجد إخلاصا من المحبوب لم يكن أمامها سوى الرحيل، وحين تقول: (سأخرجك مني حتى إن احتاج الأمر ممارسة غضبي لأحطم جسرا واصلا بين روحي وأبديتك فيَّ حتى إن احتاج الأمر جراحة عاجلة) فقولها (إن احتاج الأمر ممارسة غضبي … إن احتاج الأمر جراحة عاجلة) فهذا يدل على إخلاصها للتجربة، فهي لم ترغب في الرحيل، فالحب متمكن من نفسها لدرجة أن الأمر يحتاج إلى ممارسة الغضب، كما يحتاج أحيانا إلى جراحة عاجلة، وهو مجاز دال على القوة في التخلص من هذا الحب، ومع هذه القوة تتجلى صورة الإخلاص؛ إذ إن استخدام القوة ناتج عن تمكن هذا الحب من النفس، وهو ما يعبر بطريق غير مباشرة عن إخلاص الأنا الشاعرة في حبها.

الآخر في مرآة الأنا

بدت صورة الآخر/المحبوب في النص سلبية إلى حد بعيد، وقد حرصت الشاعرة على إبراز هذه السلبية؛ لأنها في الوقت الذي تثبت فيه سلبية المحبوب تتجلى إيجابية الأنا الشاعرة، ومن ثم فإن رسم صورة المحبوب لم يكن إلا لإبراز إيجابية الأنا الشاعرة، ولذلك ارتكزت ملامح المحبوب على خطوط محدِّدة ومختارة بعناية، فهو غير مخلص للتجربة، فتقول:

تصفق وحدك لمشهد أديته بمهارة

وخرجت بقرار يعفيك من قصة حب موبوءة بالعتمة

إن التركيز على هذه الصفات لدى المحبوب لم يكن مقصودا لذاته، بل لإبراز الصورة المعاكسة للأنا الشاعرة، فإذا كان المحبوب غير صادق فإن الشاعرة تتحدث في المقابل عن نفسها بأنها ستمارس غضبها في التخلص من التجربة التي لم يكن الطرف الآخر صادقا فيها، وهذا ما يبرز صورتين متعاكستين: صورة المحبوب المخادع الكاذب، وصورة الأنا الشاعرة الصادقة.

الأنا في مرآة المتلقي

إذا كانت السطور السابقة قد  حاولت أن تبرز صورة الأنا الشاعرة في مرآة نفسها، وصورة الآخر في مرآة الأنا الشاعرة فإن السطور التالية سوف تحاول رصد ملامح الأنا في مرآة المتلقي، أي كيف يرى المتلقي الأنا الشاعرة من خلال ما عبَّرت عنه ألفاظ النص وجمله المتنوعة.

1 المراوغة: تبدو الأنا الشعرية في النص مراوغة ليس بالمفهوم الأخلاقي لهذا المصطلح إلى حد كبير، فإذا كانت المراوغة إجراء يستخدمه المتكلم للخداع من خلال ذكر بيانات أو معلومات صحيحة ولكنها تنحرف في الدلالة عن الهدف الأصلي، أو تنتزع من السياق الطبيعي لها فتؤدي إلى جعل المتلقي يستنتج استنتاجات خاطئة، ولكنها مقصودة ممن قام بالمراوغة فإننا أمام استخدام واضح للمراوغة من جانب الشاعرة، وقد بدت تلك المراوغة في مواضع متعددة في النص، تقول:

حملت جسدي

بحثا عن موطن دافئ غير قلبك

قبل أن أصاب بنوبة فزع

لقرارك المفاجئ

وتبدو المراوغة هنا في قولها (قبل أن أصاب بنوبة فزع) بعد قولها (حملت جسدي) فالمعلومة الصحيحة التي تستخدمها الشاعرة في هذا الموضع هو الرحيل الذي دلت عليه جملة (حملت جسدي) والمفروض أن تقول حملت جسدي/رحلتُ لأنك فعلت كذا، أو لأنني اكتشفت كذا … إلخ، أي أنها تذكر سببا ملموسا دفعها إلى حمل جسدها، والابتعاد، ولكننا فوجئنا أنها تقول (قبل أن أصاب بنوبة فزع لقرارك المفاجئ)، ومع أننا لا نعرف ماهية هذا القرار الذي قد يفاجئها، والذي لم تذكره فإن اللمحة الأولى أن المحبوب لم يتخذ قرارا على حد تعبير الشاعرة، واللمحة الثانية وصف القرار الذي لم يُتَّخذ أصلا بالمفاجئ، وكأنه لم يكن له مقدمات تستدعيه، وتأتي المراوغة هنا من خلال إضراب الشاعرة عن ذكر السبب الحقيقي للرحيل ولجوئها إلى تلفيق حجج ليست أسبابا، ولكنها مخاوف في نفسها ليس عليها أدلة، ولا لها شواهد تبررها، وتدفع المتلقي إلى الاعتقاد فيها، وأنها السبب الحقيقي والمقنع للرحيل، بل تدفعه إلى الاعتقاد أنها قد اتخذت القرار الصحيح والمنصف تماما عندما رحلت، أما الموضع الثاني الذي يعبر عن المراوغة فهو قولها:

لا أريد لميزانى

أن يخذل عدل المحبيبن

إذ إنها أضفت على نفسها صفة العدالة، من خلال إضافة ضمير المتكلم الدال عليها إلى لفظ الميزان، ثم اتخاذ هذا الميزان مقياسا لقياس عدالة المحبين، والمعلومة الصحيحة هنا هي أن الميزان مقياس للعدالة فعلا، ولكن الشاعرة أضافت الميزان إلى ضمير المتكلم الدال عليها، ومن ثم فإنها جعلت من نفسها مقياسا لعدالة المحبين، فتحولت بذلك من مجرد محب من المحبين، قد يصدق في حبه وقد لا يصدق، إلى مقياس لعدالة الحب، فما تفعله هو الحب وما لم تفعله ليس بحب، وبذلك نصَّبت نفسها الحكم العدل بين المحبين، فأصبح بذلك رحيلها انتصارا لعدالة المحبين، وفي ذلك من المراوغة ما فيه، ثم يأتي الموضع الثالث الذي يحمل دلالة المراوغة في قولها (سأتذكر كل ما لم يكن بيننا) ومكمن المراوغة هنا أن الشاعرة ما زالت تخفي الهدف الحقيقي للرحيل، وتحاول إضفاء المشروعية على هذا الرحيل، فكل ما ذكرته عبارة عن عوارض خارجية وليست أسبابا، فإذا أردنا ترتيب الأمور فسوف تكون كالتالي (إنني سأرحل لأنني أريد أن أبحث عن موطن دافئ غير قلبك، ولأنني لا أريد أن أخذل عدل المحبين…) وقد يقول قائل إن قولها (موطن دافئ غير قلبك) دليل واضح على ضرورة الرحيل، ولكن الشاعرة في المقطع التالي مباشرة تقول (سأتذكر كل ما لم يكن بيننا … لغة خرساء أبطأت نزيف كلمات الغزل، خريف علقناه بشتاءنا، وما سقطت أوراقه وما ذبلت) فلم تكن بينهما لغة خرساء أي أن التواصل كان مستمرا بينهما، و لغة الغزل كانت مستمرة، بل كانت كالنزيف، أي كثيرة ومتدفقة … فمن أين يأتي القول بأن قلبه لم يكن دافئا، وأنها تحتاج إلى موطن دافئ غير قلبه، إنها تراوغ في ذكر الأسباب الحقيقية للرحيل، أما الموضع الرابع الدال على المراوغة ففي قولها (سأخرجك مني …) والمراوغة هنا ناشئة عن كونها كشفت عن التناقض الذي وقعت فيه، ففي البداية قالت (حملتُ جسدي بحثا عن …) ولفظ حملت فعل ماض دال على زمن انتهى، وهذا يعني أنها قد اتخذت قرارها ونفَّذته، ولكن تعود لتقول (سأخرجك مني) فهل رحلت بالفعل، وانتهت القصة أو أنها سترحل ؟! لقد راوغت الشاعرة في إظهار مشاعرها الحقيقية فبدت مترددة بين الفعل وضده في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى وقعت فيما سبق أن نفته، وكل ذلك لتمارس خداعا للهروب من تقديم الواقع الحقيقي للتجربة ونتائجها وتداعياتها، وقد يلتمس البعض العذر لها فيبرر ذلك بأنها منذ البداية أخذت قرار الرحيل نتيجة خوفها من فشل التجربة، وعدم قدرتها على تحمل النتائج النفسية لهذا الفشل، وهذا تماما هو النتيجة التي تريد الشاعرة أن يعتقدها المتلقي، واستخدمت في وصوله إلى هذه النتيجة كل الوسائل التعبيرية التي أشرنا إليها سابقا.

2 التناقض: وهو مرتبط إلى حد بعيد بالملمح الأول (المراوغة) وقد بدا التناقض في حديث الشاعرة في بداية النص وحديثها في آخره، ففي البداية قالت: ( حملت جسدي إلى موطن دافئ غير قلبك قبل أن أصاب بنوبة فزع لقرارك المفاجئ …) وهو حديث واضح الدلالة على قرار الشاعرة بالرحيل، ثم تقول في نهاية النص (سأخرجك منى حتى إن احتاج الأمر ممارسة غضبي؛ لأحطم جسرا واصلا بين روحي وأبديتك فيّ، حتى إن احتاج الأمر جراحة عاجلة) وهو حديث واضح الدلالة أيضا على تمكن الحب من قلبها، واستخدامها السين الدالة على المستقبل تهديد واضح بأنها ستتخلص من هذا الحب، وهذا يعني أنها لم ترحل ولكنها سترحل، ويؤكد ذلك قولها (جسرا واصلا بين روحي وأبديتك فيَّ) وهي كلمات دالة بعمق على التمكن، وهو ما ينفي ما قالتها في البداية (رحلت …) فلفظ (رحلت) دال على الفعل الذي حدث وانتهى، وقولها (بحثا عن موطن دافئ …) دال على المكان الذي قررت الرحيل إليه، أما قولها (سأخرجك مني) فهو دليل واضح على تمكن الحب من نفسها، وقد يقول قائل: إنها رحلت فعليا ولكن مشاعرها ما زالت مرتبطة به، وهذا يبرر قولها (سأخرجك مني) أي لن أظل متمسكة بهذا الحب، ولكن هذا المبرر لا يصلح؛ لأنها لو كانت متمسكة بالحب فسوف تحاول، وبما أنها لم تذكر سببا للرحيل، ولجأت إلى المراوغة فإن الأقرب للمنطق أنها متناقضة في الموقفين، وهذا التناقض واضح جدا في النص عبر امتداده، أما الموضع الثاني الدال على التناقض فهو مرتبط بالموضع الأول، فهي قد اتهمت المحبوب بالخداع من خلال قولها (بينما تصفق وحدك لمشهد أديته بمهارة وخرجت بقرار يعفيك من عبء يجرك إلى قصة حب موبوءة بالعتمة) ولكنها تعود لتقول في نهاية النص (وعقابي لك: لن أساعدك على مغادرتي منك … صدرك مخلوق بحجم رأسي … أحاديثي السرية ملفوفة بصمتك … آثار أنفاسي على جلدك … دمك مزدحم بريقي) ثم يأتي التحدي الكبير منها في قولها (فأرني إذن كيف تُخرجني منك؟) ومن الواضح أن الموقفين متضادان، فهل كان المحبوب مخادعا كما أوردت الشاعرة عندما قالت (تصفق وحدك لمشهد أديته …) أم كان ممتلئا بالتجربة، وغارقا فيها حتى أذنيه كما أوردت عندما قالت (لن أساعدك على مغادرتي منك) ؟ إن التناقض الواضح بين الموقفين جعل المتلقي لا يستطيع الجزم بحقيقة الموقف النفسي والشعوري الذي يمكن أن يكون عليه المحبوب، وبخاصة أن المتلقي لا يمتلك مصدرا آخر للمعلومات سوى حديث الشاعرة، بمعنى أن القصيدة لم تشتمل على حوار بين الطرفين، أو أي شكل من أشكال الظهور للمحبوب يمكن أن يستقي منه المتلقي توصيفا حقيقيا له أو لمشاعره.

النصُّ بين الخبر والإنشاء

من الملاحظ سيطرة الأساليب الخبر على النص، فقد جاءت أساليب القصيدة كلها خبرية ماعدا ثلاثة مواضع: الأول العنوان (كيف تخرجني منك؟) والثاني في نهاية القصيدة (فأرني إذن …) والثالث اتختتمت به الشاعرة القصيدة، وهو تكرار لما ورد في العنوان (كيف تخرجني منك) فالأسلوبان الأول والثالث  استفهام، أما الأسلوب الثاني فإنه أمر، ولكن الأساليب الثلاثة خرجت عن معناها الحقيقي لمعنى آخر وهو التحدي، أما بقية الأساليب في القصيدة فقد جاءت خبرية وهو ما يتناسب مع الطبيعة التشكيلية للقصيدة، وهي طبيعة حكائية؛ إذ تقدم القصيدة تقريرا عن تجربة شعورية وتصف عناصر هذه التجربة وتصرفاتهم وانحيازاتهم الفكرية والشعورية، ومن ثم فقد لجأت الشاعرة إلى الخبر، ومن الملاحظ أن الشاعرة حين تحدثت عن نفسها في المقطع الأول لم تستخدم أساليب التوكيد، ومن ثم فقد اعتبرت المخاطب خالي الذهن أي أنه لا يحتاج إلى توكيد الكلام، فالمخاطب إذا كان (خالي الذهن من الحكم على أحد طرفي الخبر على الآخر والتردد فيه اسْتُغْنيَ عن مؤكدات الحكم … وإن كان متصور الطرفين، مترددًا في إسناد أحدهما إلى الآخر، طالبا له حَسُنَ تقويتُه بمؤكد … وإن كان حاكمًا بخلافه وجب توكيده بحسب الإنكار، ويسمى النوع الأول من الخبر ابتدائيا، والثاني طلبيا، والثالث إنكاريا، وإخراج الكلام على هذه الوجوه إخراجًا على مقتضى الظاهر”(3) فالشاعرة تقول في المقطع الأول (حملتُ جسدي بحثا عن موطن دافئ غير قلبك قبل أن أصاب بنوبة فزع لقرارك المفاجئ لا أريد لميزانـى أن يخذل عدل المحبيبن حين أسجد باكية) وقد جاءت الجمل كلها خالية من التوكيد، ومن ثم فإن الشاعرة اعتبرت المتلقي خالي الذهن لا يحتاج إلى توكيد المعاني التي تسوقها، وكأنها اعتبرت هذه المعاني مسلمات لا تحتاج إلى توكيد، وهو ما يتناسب مع طبيعة الأنا الشاعرة التي تريد أن تبدو واثقة من نفسها، وما تتخذه من قرارات، وما تنقله من أفكار، وما تعبر عنه من رؤىً، وعندما تحدثت عن رؤيتها للتجربة استمرت في استخدام الأساليب الخبرية الخالية من التوكيد، إذ تقول (سأتذكر كل ما لم يكن بيننا :أماكن الثقوب المؤلمة  شرفات تلصصت على حلمنا لغة خرساء أبطأت نزيف كلمات الغزل خريف علقناه بشتاءنا وما سقطت أوراقه وما ذبلت) وكأن حديثها لا يحتاج إلى توكيدات، فهو لا يلقى أي اعتراض سواء من الطرف الآخر/المحبوب، أو المتلقي، وعند حديثها عن عقابها للمحبوب في نهاية القصيدة واصلت استخدام الأساليب الخبرية الخالية من التوكيد، فقالت: ((وعقابى لك :لن أساعدك على مغادرتي منك ذكرياتك فى ملامحي صدرك مخلوق بحجم رأسى أحاديثي السرية ملفوفة بصمتك آثار أنفاسى على جلدك همسات قصصي في مسمعك دمك مزدحم بريقى) ولم يختلف الأمر حين تحدثت عن المحبوب فقالت: (بينما تصفق وحدك لمشهد أديته بمهارة وخرجت بقرار يعفيك من عبء يجرك إلى قصة حب موبؤة بالعتمة) فقد جاءت الجمل كلها أيضا خالية من التوكيد الذي قد يثير نوعا من الاعتراض أو الشك في كلام الشاعرة، ومن ثم فقد كانت الأنا الشاعرة متسقة مع نفسها حين استخدمت  الأساليب الخبرية للتعبير عن رؤيتها للتجربة الشعورية التي تتحدث عنها، ورؤيتها لأحداثها وشخوصها، ونهايتها، وهو ما يؤكد ما ذهبنا إليه من أن الأنا الشاعرة ترى نفسها صادقة في تجربتها، ومخلصة لمشاعرها سواء حين اندمجت في التجربة، أو قررت التخلص منها، وقد جاءت الأساليب الخبرية الابتدائية، أي الخالية من التوكيد معبرة عن رؤية الأنا الشاعرة، فالشاعرة تحاول تثبيت الحضور الفعلي لرؤيتها في مقابل تغييب كل العناصر التي قد تبدو مناقضة لهذه الرؤية سواء كانت المناقضة على مستوى شخوص القصة أو أفكارهم، أو حتى مجرد إبداء أي شكل من أشكال الاعتراض على هذه الرؤية التي تراها من خلال استخدام أي شكل من أشكال التوكيد المعبِّر عن الاعتراض أو الإنكار بصورة أو بأخرى لهذه الرؤية التي أرادتها الشاعرة.

التشكيل اللغوي للنص

يمثل التشكيل اللغوي لنص ما أحد أوجه فهم هذا النص؛ فاللغة هي الواسطة بين المبدع والمتلقي، فإذا “كانت الطاقة الإيحائية للمجازات تمثل الصورة المهيمنة على مرجعية الخطاب في صياغة التركيب الشعري وإنتاج الدلالة فإن شعرية أخرى لم يولها الباحثون اهتماما كبيرا هي الشعرية النحوية” (4) وهي شعرية تشتمل على اتساع يعطي المبدع حرية أكبر، وحيوية في صياغة تراكيبه الشعرية، والإمساك بالخيوط السرية التي تتشكل من خلالها لعبة المعنى، وقد تنبَّه عبد القاهر الجرجاني إلى تلك الطاقة النحوية، وأشار إلى قدرتها على رفد الأسلوب بجمالية غير متوقعة؛ إذ يقول في تعليقه على الآية (واشتعل الرأس شيبًا) (5) ومقارنته بغيره من التعبيرات، مثل (اشتعل شيب الرأس والشيب في الرأس) فيقول: “واعلم أن في الآية الأولى شيئا آخر من جنس النظم، وهو تعريف الرأس بالألف واللام، وإفادة معنى الإضافة من غير إضافة، وهو أحد ما أوجب المزية، ولو قيل: واشتعل رأسي، فصرَّح بالإضافة لذهب بعض الحسن” (6) ويستمر عبد القاهر في التدليل على كلامه بتحليل العديد من الآيات، وهذا يعني أن اختيار صورة نحوية معينة يعطي طاقة تعبيرية تفوق أحيانا الطاقة التي تعطيها الصورة المجازية، وهذا يضعنا مباشرة في لبِّ القضية، وهي قدرة التحليل النحوي للجملة الشعرية على تفكيك شفرة النص، والكشف عن حقوله الدلالية، والبوح بما لم تستطع البوح به الصور المجازية، وسوف نتوقف أما النص من هذه الزاوية البحثية/التحليل النحوي للجملة الشعرية، إما تأكيدًا لما ورد من تحليل لحركة المعنى وأثرها في إنتاج الدلالة، أو اكتشافا لجديد لم يرد في تحليلنا السابق.

تحاول الشاعرة في النص تأكيد الحضور الفعلي لها، ولأفعالها في مقابل تغييب كل العناصر الأخرى المناقضة لهذا الحضور أو غير المساعدة في تأكيده، ويتبدى ذلك في قولها (ميزاني) إذ أضافت الميزان  إلى نفسها، وإذا كان الميزان مقياسا للعدالة فإنها تحولت هي الأخرى مقياسا لعدالة المحبين، ومن ثم فإن أي حضور للمحبين وطلبهم للعدالة يستتبع تلقائيا حضورها وحضور ما فعلته؛ لأنها تمثل هي وأفعالها العدالة في عالم المحبة، وهذا الحضور الفعلي في اللفظ ناتج عن حضور مهيمن على النفس الشاعرة، ومن ثم غاب كل عنصر يُفترض أن يكون له حضور ما، ففعل المحبوب لم يحضر؛ لنرى إن كان يدخل ضمن موازين المحبة أم لا؛ لأنه إذا حضر فسوف تكون هناك مقارنة بين فعله وفعل الشاعرة لمعرفة أي منهما يصلح مقياسا لعدالة المحبين، وفي هذه الحالة تفقد الشاعرة وفعلها القدرة على إثبات كونها فاعلة إيجابية، وتحولها إلى مقياس لعدالة المحبين، وقد لجأت الشاعرة لتأكيد حضورها بأفعالها إلى ارتقاء فعلها إلى درجة العدالة المطلقة من خلال استخدام الجملة المنفية الدالة على نفي الإرادة عن أي فعل يمكن أن يخذل عدالة المحبين، في قولها (لا أريد لميزاني أن يخذل عدالة المحبين) وإذا كانت (لا) النافية حرفا يعمل للدلالة على نفي الحكم عن جنس اسمها بغير احتمال، لأكثر من معنى واحد فإن نفي الإرادة لأي خذلان لعدالة المحبين هنا هو في الحقيقة تأكيد لعدالة الشاعرة التي تؤهلها إلى التطابق مع العدالة المطلقة التي ينشدها المحبون، وهو ما يستتبع حضورها في أي موقف يستدعي العدالة من قبل المحبين.

ويتجلى حضور الشاعرة أيضا من خلال قولها (حملتُ جسدي) فهذا المادي منها هو الذي استتبع بقية القصيدة، فحملها للجسد فعل مادي، وكان من الممكن أن تعبر عن المعنى بأكثر من طريقة باستخدام أكثر من لفظ يمكن أن يدل على الرحيل أو التخلي عن قصة الحب، ولكن استخدامها للفظ (حملتُ) يستتبع رؤية مادية من المتلقين لهذا الخطاب وبالتالي السؤال عن سبب حملها لهذا الجسد، كما أن حمل الجسد يستتبع رؤيتها واهنا وهو دليل واضح على المعاناة التي لقيتها الشاعرة في هذه التجربة، ومن ثم يصبح الدليل ماثلا ماديا أمام الشهود الذين لا شك أنهم سيكونون في صف الشاعرة عند الاحتجاج على فعلها.

 

                                             

 

 

 

 

كيف تُخْرِجُني منكَ؟

فدوى حسن

حملتُ جسدي

بحثا عن موطن دافئ غير قلبك

قبل أن أصاب بنوبة فزع

لقرارك المفاجئ

لا أريد لميزانـى       

أن يخذل عدل المحبيبن

حين أسجد باكية

بينما تصفق وحدك لمشهد أديته بمهارة

وخرجت بقرار يعفيك من عبء

يجرك إلى قصة حب موبؤة بالعتمة

سأتذكر كل ما لم يكن بيننا:

أ ماكن الثقوب المؤلمة

  شرفات تلصصت على حلمنا

لغة خرساء أبطأت نزيف كلمات الغزل

خريف علقناه بشتاءنا

وما سقطت أوراقه وما ذبلت

سأخرجك منى,

حتى أن احتاج الأمر ممارسة غضبى,

لأحطم جسر واصل بين روحي

وأبديتك فيّ,

حتى إن احتاج الأمر جراحة عاجلة                                     

وعقابى لك :

لن أساعدك على مغادرتي منك

ذكرياتك فى ملامحي

صدرك مخلوق بحجم رأسى

أحاديثي السرية ملفوفة بصمتك

آثار أنفاسى على جلدك

همسات قصصي في مسمعك

دمك مزدحم بريقى

فأرنى إذن

كيف تخرجنى منك!

فدوى حسن   الرياض 28/8/2020م

 

(1)  خالد حسين، شعرية المكان في الرواية الجديدة ص 368                           

(2)  نقلا عن : صدوق نور الدين، البداية في النص الروائي ص 70

(3)  الخطيب القزويني، الإيضاح في علوم البلاغة، ص 28

(4)  محمد سعيد شحاتة، الرؤية الفكرية والتشكيل الفني في شعر هند بنت صقر القاسمي، ص 37

(5)  سورة مريم، الآية 4

(6)  عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، تحقيق محمود محمد شاكر، ص 81

أوبرا مصردراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى